منصة الصباح
الهادي بوحمرة

تفكيك لحظة الاستفتاء الدستوري 

الهادي بوحمرة

لم يكن تعطيل المسار الدستوري في ليبيا نتيجة ظرف طارئ أو اختلاف تقني حول نص مشروع الدستور، بل حصيلة مسار خطابي وسياسي تراكمي اشتغل بهدوء داخل دوائر النخبة، قبل أن يُعاد إنتاجه في الوعي العام بوصفه موقفا عقلانيا ومسؤولا. فقد جرى، في مرحلة مفصلية، إقناع قطاعات واسعة من النخب السياسية والقانونية والثقافية بأن الوقت غير مناسب للاستفتاء على مشروع الدستور، وأن المضي فيه قد يفضي إلى تعميق الانقسام بدل إنهائه، رغم أن المراد حقيقة من مشرع هذا القول هو تعميق الانقسام أصلا.

وقد انطلق هذا الخطاب من مسلمات تبدو، في ظاهرها، حريصة على المصلحة العامة، وهي الدعوة إلى مزيد من المشاركة المجتمعية، وتوسيع دوائر الحوار، وتفادي الاستعجال في اتخاذ قرار مصيري. غير أن هذه الدعوات تحوّلت، مع مرور الوقت، من وسائل لتحسين التوافق إلى آليات تعطيل بنيوي، وهو المقصود.

فالحوار لم يكن طريقا إلى الحسم، بل غاية قائمة بذاتها، تُستعاد بصور وأشكال متكررة، دون سقف زمني أو نتيجة ملزمة.

ومع تكرار هذه المسارات الحوارية، أُغرقت النخب في التفاصيل الإجرائية والجزئيات الخلافية، حتى بدأت “الشياطين” تظهر في التفاصيل، لا باعتبارها إشكالات قابلة للإدارة، بل كدلائل على استحالة الاتفاق. وهكذا تحوّل الاختلاف الطبيعي في مجتمع متنوع إلى مادة لإعادة إنتاج التباعد بين الفئات، لا إلى مدخل لتنظيمه. ومع كل جولة حوار جديدة، كانت المسافات تتسع وتوسع، لا بفعل عمق الخلاف وحده، بل لأن منطق العملية ذاته صار قائما على استدامة الخلاف.

وفي هذا السياق، أُعيد طرح المصالحة الوطنية بوصفها شرطا سابقا على الاستفتاء، لا مسارا موازيا له. فقد قُدّمت المصالحة كعملية عميقة وطويلة الأمد، تتطلب إشراك الجميع دون استثناء، وتحتاج إلى زمن مفتوح قبل أي استحقاق دستوري. ورغم الوجاهة الظاهرية لهذا الطرح من حيث المبدأ، إلا أنها وجاهة ماكرة تخدم أهدافا أخرى، وأدت عمليا إلى تعليق المسار الدستوري على شرط غير محدد، ما جعله قابلا للتأجيل المستمر، وربط إنهاء المرحلة الانتقالية بهدف لا أفق زمنيا له.

ولا يمكن فصل هذا المسار عن الدور الذي اضطلعت به البعثة الأممية، ليس عبر إعلان صريح لمناهضة الاستفتاء، بل من خلال إدارة صامتة لأولويات أعادت توجيه العملية السياسية بعيدا عن المسار الدستوري المنصوص عليه في الإعلان الدستوري، حيث جرى، تدريجيا، تهميش الاستحقاق الدستوري مقابل طرح بدائل سياسية وإجرائية قُدّمت بوصفها أكثر واقعية وتوافقية، دون أن تستند إلى تفويض شعبي مباشر.

وفي هذا الإطار، جرى توظيف النخب بوصفها وسيطا رئيسيا، عن طريق استغلال رغبتها في الظهور والتأثير والمشاركة. فتمّ جمعها في مسارات حوارية متعددة، تتغير تسمياتها وتتشابه بنياتها، وتنتهي في الغالب إلى توصيات عامة لا تملك قوة الإلزام. ومع كل جولة، كان يُعاد تضخيم الاعتراض على أي حل حاسم يُطرح، لا عبر نقاش جوهره، بل عبر التشكيك في توقيته أو شموليته أو مستوى التوافق المحيط به.

وبرزت في هذا السياق مجموعة من المصطلحات الفضفاضة التي شُحنت بدلالات إيجابية دون تحديد مضمونها الإجرائي، ومن أهم هذه المصطلحات مصطلح “التوافق”، كبديل للمصطلحات التي يمكن ضبطها بسهولة ك”الأغلبية الموصوفة”، و”وقد أدّت هذه المفاهيم وظيفة مزدوجة: فمن جهة، أشبعت الخطاب النخبوي بإحساس أخلاقي بالحرص والمسؤولية، ومن جهة أخرى، شكّلت بديلا لغويا عن الاحتكام المباشر إلى إرادة الشعب عبر الاستفتاء العام. ومع تكرار هذه المصطلحات داخل دوائر النخبة، تحوّلت إلى مسلّمات يُعاد إنتاجها في الفضاء العام دون مساءلة حقيقية عن أساسها ومعيارها.

ومع ترسّخ هذا الخطاب داخل النخب، انتقل أثره إلى المجتمع الأوسع. فلم تكتفِ النخب بعدم دعم الاستفتاء، بل تولّت، بوعي أو دون وعي، إقناع العامة بأن الوقت غير مناسب، وأن الوحدة لا يمكن أن تُبنى عبر الدستور، بل عبر انتظار توافق شامل لم تتضح معالمه. وهكذا تولّدت قناعات راسخة بأن المشكلة تكمن في الاستعجال لا في الفراغ، وأن الحل يكمن في التأجيل لا في الحسم.

وبفعل هذا التراكم، لم يعد الانقسام يُنظر إليه كحالة استثنائية ينبغي تجاوزها، بل كواقع ينبغي التعايش معه، بل وإدارته. ومع الوقت، تحوّل الانقسام ذاته إلى حل ضمني يُبرَّر به تعطيل استكمال الخارطة الدستورية كما وردت في الإعلان الدستوري. فبدل أن يكون الدستور أداة لإنهاء الانقسام، أُعيد تصويره زورا وبهتانا كعامل قد يعمّقه، ما دام التوافق الكامل غير متحقق، وهو ما يمكن وصفه في ظروف ليبيا تحديدا بشبه المستحيل.

إن خطورة هذا المسار لا تكمن في رفض الاستفتاء في لحظة بعينها، بل في تحويل التأجيل إلى ثقافة سياسية، والانقسام إلى وضع طبيعي، والوحدة إلى هدف مؤجل إلى أجل غير معلوم. وبهذا، لم يُقوَّض المسار الدستوري عبر مواجهة مباشرة، بل عبر خطاب عقلاني ظاهريا، اشتغل من داخل النخبة، وأُعيد إنتاجه مؤسسيا، حتى تَحوّل الانقسام من أزمة مؤقتة إلى بنية قائمة يُبنى عليها الواقع السياسي،،،

شاهد أيضاً

د.علي المبروك أبوقرين

الإنفاق الصحي في ليبيا بين وفرة الموارد وغياب الأثر

د.علي المبروك أبوقرين لا تعكس مستويات الإنفاق الصحي في ليبيا النتائج الصحية المتحققة على أرض …