في ليبيا ، لا يقتصر المرض على كونه ألمًا جسديًا ، بل يتحول إلى قوة مدمّرة تقود المريض وأسرته إلى فقرٍ متسلسل يطال كل جوانب الحياة ، والفاتورة الصحية مهما بدت محدودة في بدايتها تتضخم ككرة الثلج ، وتلتهم مدخرات العائلة وتستنزف مواردها المالية وترهقها نفسيا ، وفي غياب خدمات صحية عامة آمنة وذات جودة ، يجد المواطن نفسه أمام خيارين كلاهما مُرّ إما القبول بعلاج مجاني هشّ محفوف بالمخاطر ، أو اللجوء إلى القطاع الخاص حيث تُضخَّم التكاليف بلا سقف ولا رقيب ولا ضوابط ، والمرض ذاته يصبح مصنعًا للفقر ، فالمريض يترك عمله مجبرًا ، والأسرة تترك أعمالها لترافقه وترعاه ، فيتراجع الدخل وتتضاعف المصاريف ، وكلما طال المرض أو اشتد ، تزايدت النفقات في أدوية باهظة الثمن ، وتحاليل متكررة ، وعمليات عاجلة ، ومستلزمات وأدوات طبية مكلفة وقد يجبر عليها لمصلحة المعالج ، وفي كل لقاء بين المريض والمعالج يُطلب فحوصات غير ضرورية وخدمات تُضخّم أسعارها عمدًا ، ليجد المريض نفسه في دوامة استنزاف مالي لا مخرج منها .
ورغم أن ليبيا دولة ريعية بموارد نفطية كبيرة ، فإن الإنفاق الحكومي على الصحة يظل غير كافٍ ولا يقارب الموازنات التي تخصصها الدول الغنية أو حتى الدول ذات الموارد المشابهة ، وما يُنفق لا يذهب في معظمه إلى تحسين الخدمات الطبية الجوهرية أو دعم الكوادر المتخصصة ، بل يتبدد في تفتيت القطاع وتضخمٍ هائل للقوى العاملة التي لا حاجة لها ، بينما يعاني القطاع من نقص حاد في الأطباء المتخصصين ، والمهن الطبية المساندة ، والإداريين الصحيين المؤهلين القادرين على إدارة المرافق بكفاءة ، تتكدس المرافق بمن لا حاجة فعلية لهم ، في حين تُترك الأقسام الحرجة بلا أطباء متخصصين ، ولا تمريض متخصص ومؤهل ، ولم يقف الخلل عند سوء توزيع الموارد ، بل زادته ظاهرة الجمع بين القطاعين العام والخاص ، فالكثير من الكوادر الصحية يتقاضون رواتبهم من الدولة بينما يعملون بدوام موازٍ في القطاع الخاص ، ما يحرم المستشفيات العامة من خبراتهم في أوقات الحاجة ، ويُرغم المواطن على دفع ثمن العلاج مرتين مرة عبر الضرائب والموازنات العامة ، ومرة عبر الفواتير الخاصة الباهظة ، هذا الواقع لا يفاقم فقط الإفقار الصحي للمواطن ، بل يثقل كاهل الدولة نفسها التي تدفع أجورًا مقابل خدمات لا تُقدَّم ، إن الإفقار الصحي لا تقف آثاره عند حدود جيب الأسرة ، بل ينساب إلى المجتمع بأسره ، المريض الذي يفقد عمله بسبب طول فترة العلاج ، وأفراد الأسرة الذين يتخلون عن وظائفهم لرعايته ، وشباب يتركون التعليم ليؤمّنوا تكاليف العلاج لأهلهم ، وهكذا يتحول المرض إلى محرّك للبطالة ، ومع سوء التغذية الناتج عن استنزاف الموارد تنعكس على زيادة أمراض مزمنة لا تُعالج في الوقت المناسب ، واضطرابات نفسية كالاكتئاب والقلق الناجمين عن الخوف من العجز المالي وقلة الحاجة والحيلة ، وإن الفقر الناتج عن المرض يغذي أمراضًا جديدة ، في دائرة مغلقة تلتهم صحة المجتمع ، ويجعل الأطفال يتسربون من التعليم للمساهمة في نفقات العلاج ، أو يحرمون من بيئة تعليمية سليمة ومنضبطة بسبب ضغوط الأسرة المالية . وتتوارث الأجيال نقص التعليم ، فيُعاد إنتاج الفقر والمرض جيلاً بعد جيل ( عودة على ما سبق ) ، ومن يستطيع شراء العلاج الجيد ينجو ، ومن يعجز عنه يواجه الموت أو الإعاقة ، وينشأ مجتمع منقسم إلى طبقات ، أقلية تعالج أمراضها بترف ، وأغلبية تعاني بصمت ، مع شيوع ثقافة الاستجداء والتبرعات لعلاج المرضى ، وازدهار الدجل الطبي والشعوذة كبدائل رخيصة ، وانتشار سلوكيات اليأس ، وتتراجع الثقة في المؤسسات العامة ، ما يعزز الفردية والانانية والبحث عن خلاص شخصي ولو على حساب الآخرين ، ومواجهة الإفقار الصحي تتطلب إرادة سياسية ومجتمعية شجاعة وخطة متكاملة لإعادة توجيه الإنفاق الحكومي نحو بناء قطاع صحي عام قوي وفعال ومنصف ، وتخصيص الموارد لتأهيل الأطباء والمهن الطبية المساندة بدل تضخيم الوظائف الإدارية وتكديس قوى عاملة لا علاقة لها بالصحة ، مع منع الجمع بين العمل العام والخاص ، وتشديد الرقابة والمحاسبة والتدقيق لمنع تضخيم الفواتير والخدمات الوهمية ، وإلزام العاملين بالقطاع العام بأداء واجباتهم كاملة ، والاستثمار في التثقيف والتوعية والوقاية لتقليل الحاجة إلى العلاج المكلف ، مع برامج دعم اجتماعي تحمي الأسر المهددة بالفقر بسبب المرض ، والمحافظة على تعليم الأجيال واستقرار المجتمع .
ويا للمفارقة في زمن كانت موارد الدولة محدودة وتقنيات الطب بدائية وجد الإنسان طريقا إلى عدالة صحية تحفظ كرامة الفقير وفي العصور الإسلامية الذهبية كانت البيمارستانات منارات للعلم والرحمة وكان للمريض حقه في الإقامة الكاملة والغذاء والدواء والكساء طوال فترات العلاج والنقاهة ويعطى للمريض مساعدة مالية عند خروجه تعينه حتى التعافي التام ، والأطباء يتلقون أوجورهم من بيت المال وليس من المرضى ، أما اليوم عشنا وشفنا المريض الليبي يبيع بيته وأرضه وما تبقى من رزقه أو يستدين ليحصل على دواء أو سرير في مصحة أو جرعة لعلاج السرطان ، رغم الثروات النفطية والتقدم الطبي المذهل يتحول العلاج إلى فاتورة والمريض إلى زبون والصحة إلى صفقة تجارية يتنافس فيها الحذاق .
وإن تجربة البيمارستانات والأمس القريب تقول بوضوح إن الفقر الناتج عن المرض ليس قدرا بل نتيجة خيارات سياسية واقتصادية ، وإن الإفقار الصحي في ليبيا ليس مجرد قضية طبية أو مالية ، بل هو جريمة اجتماعية صامتة تنسج خيوطها في بطالة متنامية ، وأمراض مزمنة ، وجهل متوارث ، وتفاوت طبقي يهدد وحدة المجتمع . فالصحة ليست سلعة ، والمرض لا يجب أن يكون حكمًا بالإفلاس ، بل حافزًا لإعادة بناء نظام صحي عادل يحمي كرامة المواطن ، ويضمن أن لا تتحول اللحظة الإنسانية الأشد ضعفًا إلى بوابة للفقر والحرمان .
الطبيب الفيلسوف الرازي قال إن الطب رحمة والرحمة لا تباع .