منصة الصباح

أَرْضُ الحُبِّ الَّذِي لاَ يَغْرَق

باختصار

         بعد أن فاض السد، وتسلقت مياه الموت الجسور، وغمرت الشوارع التي كانت شاهدة على أعراس المدينة وضحكات أبنائها، وابتلعت البيوت والأحلام معا في لحظة قاسية لم تمهل أحدا للنجاة أو حتى لوداع الأحباب…. بعد كل هذا… سكن الصمت مدينة درنة، وبدأت حكاية صمود وأمل من تحت الركام.

درنة… هذه المدينة التي تتنفس الثقافة وتفيض أدباً ومسرحاً، صارت صبيحة الحادي عشر من سبتمبر 2023م لوحة حزينة بلون الطمي والدموع، حيث تحولت الشوارع التي كانت تضج بحوارات المثقفين وصوت الأطفال إلى مسرح صامت للحطام، ورائحة البحر امتزجت بوجع الأرض والناس، حتى أضحى صدى الأمواج يعنى المدينة في صمت مؤلم.

لقد كانت الكارثة أكبر من حدود الجغرافيا وأوسع من أن تتحملها طاقة البشر… لكنها رغم شدة قسوتها، فجرت في أبناء الوطن شعوراً عميقاً بالانتماء والمسؤولية.

فجأة، لم يعد في ليبيا شرق أو غرب أو جنوب، بل وطن واحد يركض نحو مكمن الجرح، فخرجت القوافل من كل المدن والقرى، تحمل الدواء والطعام، وتسبقها قلوب ممتلئة بالحب والدموع. أبناء درنة الذين وجدوا أنفسهم على ركام بيوتهم، كانوا في قلب كل ليبي، يرفعون شعار الصبر والإيمان وسط الخراب.

ولأن المدينة لا تموت، بدأت درنة تنهض من تحت الركام ببطء بفضل أبناء الوطن، كل حجر أعيد إلى مكانه حمل معه حكاية عن بيت مهدم وأم مكلومة، وطفل ينتظر خبز الغد، وكل شارع تم ترميمه صار شاهداً على أن الأمل لا يغرقه سيل أو طوفان مهما كان عنيفاً.

واليوم، وفي الذكرى الثانية لتلك الليلة السوداء، يحق لنا أن نعيد تعريف هذه المدينة. فهي لم تعد مجرد مدينة للثقافة فحسب، بل غدت رمزاً للصبر والقوة، وتستحق أن نطلق عليها اسم (مدينة الأمل) نعم، هذا الاسم هو الأصدق لوصف درنة التي جمعت الليبيين على قلب واحد، وأيقظت فيهم شعور الأخوة الحقيقية، وجعلتهم يؤمنون أن النهوض من تحت الركام والحطام لا يتحقق إلا بقلوب متصالحة، تطوي صفحات الخلاف، وتكتب تاريخاً جديداً عنوانه الحب والبناء والائتلاف.

درنة الزاهرة، كما وصفها الأدباء، وكما تغنى بها الشعراء، لا تزال المدينة التي تقف شامخة في وجه العواصف، يتوسطها واديها كعقد ثمين يزينها، هي درة البحر، ووجه المشرق للثقافة الليبية، تشبه في تاريخها وجمالها مدينة الزهراء حاضنة الدولة العامرية في الأندلس، التي بناها الحاجب المنصور فجعلها تحفة معمارية وفنية يتحدث عنها التاريخ إلى اليوم، وكما نهضت الزاهرة بعد كل محنة، ستنهض درنة من جديد، لتعود أكثر بهاء، تحتضن أبناءها وتفتح ذراعيها لكل من يؤمن بأن المدن لا تعيش إلا بالحب، ولا تزدهر إلا بالسلام والوئام.

ولعل درنة اليوم، وهي تستذكر وجع من فقدتهم وتمسح دموعها، ترسل رسالة إلى كل الوطن، نصها: أن الحياة أقوى من الفقد، وأن المدن العريقة لا تنكسر، بل تجعل من أزماتها مداداً لتكتب فصولًا جديدة من الأمل، وتؤكد أن درنة ستبقى منارة للحب والسلام.

لهذا سيبقى وجع من فقدنا في درنة محفوراً في الذاكرة، لكنه سيكون أيضاً وقوداً لحلم أكبر، حلم مدينةٍ تعود زاهية كما كانت، بل أجمل وأبهى… فهذه هي درنة الزاهرة، مدينة الأمل، وأرض الحب الذي لا يغرق.

د. على عاشور

شاهد أيضاً

ذكريات الميلود.. كان الفرح بلا حدود

كنا أطفالًا نذهب لجامع مولاي محمد بطرابلس نواصل خُطى أسلافنا الذين نهلوا العلم زمن الكتاتيب، …