منصة الصباح

  أوطان أم بلدان ؟

بقلم / جمعة بوكليب

 

أيام الدراسة بالمرحلة الابتدائية، كان تعليم أصول فن الخط العربي ضمن المنهج الدراسي، مرّة في الأسبوع. وكانت وزارة المعارف، ثم التعليم فيما بعد، توزع على التلاميذ كراسات خاصة بمادة الخط. كانت تشبه كراسات الرسم في استطالة صفحاتها، لكنها بخطوط أفقية متوازية. في أعلى كل صفحة كتب بيت شعري، أو حكمة، بخط النسخ أو الرقعة. كنت تلميذاً بمدرسة طرابلس المركزية الابتدائية، وكان مدرس الخط الشيخ الجليل المرحوم الخطاط المشهور محمد أبوبكر ساسي.

أذكر أنه من بين كل الابيات الشعرية التي كنا نحاول تقليد الخط الذي كتبت به، بيت لأمير الشعراء المرحوم أحمد شوقي:» وطني لو شُغِلتُ بالخُلدِ عنه نازعتني إليه في الخُلدِ نفسي.» وأعترف أن لا أحد منّا كان يعرف معنى ذلك البيت، أو حتى كان مهتماً بفهم فحواه. كنا، حريصين على نسخه، عدة مرات، حتى تمتليء به الصفحة، ثم ننتقل إلى التي تليها.

لم يكن أحد منّا، في تلك السن، يفكر في شيء اسمه الوطن، أو الخُلد، أو غيرها من المفاهيم المجردة التي مازالت ، حتى يومنا هذا،مادة للخلاف بين المثقفين والمفكرين. لكن ذلك البيت الشعري، ظل، لسنوات، كامناً، وكأنه في  حالة بيات، في ذاكرتي.

حين كبرتُ قليلاً، وبدأ الفضول المعرفي يسرقني إلى أشياء كثيرة، لم يكن مفهوم الوطن من بينها. كان الوطن، في فهمي، آنذاك، لايختلف كثيراً عن بيتنا، وعائلتنا، وأقاربنا، وأحبابنا، وجيراننا. وهي أمور معاشة يومياً، ومضمونة، وغير قابلة لتضييع الوقت في نقاش حولها. ولم أكن أفكر في إمكانية أن أفقد، أو أخسر بيتنا الصغير، أو أحتمال أن يكون عرضة للدمار، أو السرقة، أو التلاشي كذرات رماد في ريح.

كذلك، لم يكن لديَّ من الوقت للتفكير في المعاني المتعددة للوطن، ولماذا يشغف بعض الناس بأوطانهم، ولماذا يضحون في سبيلها بأرواحهم، ويكتبون لها الأشعار،  ولماذا يقبل البعض الآخر بخيانتها، وتسليمها لمن لا يستحقها، أو يضعونها، قصداً، في طريق  يقود إلى الكوارث والهلاك، كما يحدث لبلادنا حالياً.

وبمرور الوقت، وتغيّر الأحوال، تبين لي أن الوطن مفهموم يتسم بصعوبة العثور على تعريف له، كما يقول المناطقة، جامع مانع. وهذا، بدوره، قاد إلى وجود تعاريف أعتبرتها مضببة، تزيد في اشتجارالارتباك، وتعميق الحيرة. وكنتُ، من حين لآخر، أتذكر بيت شوقي، وأقلبه في عقلي على مهل، محاولاً فكه ، وإعادة تركيبه ، منطقياً، وعقلياً، لعلني أصل إلى اجابة مقنعة تجعل العلاقة بين الوطن، والخُلد، واضحة، لي، قليلاً،  وذات صلة بواقعي المعاش. ولسوء الحظ، وحتى لا أعترف بفشلي، لم أتمكن، من ذلك، بعد.

الوطن المقصود في بيت شوقي هو بلده – مصر. ومصر بلد مثقل بحمولة تاريخية، وله نصيب وافر في المساهمة في بناء الحضارة الانسانية، وتذوب فيه الجهوية والقبلية، والاقليمية، وبالتالي، فإن صفة الوطن تليق به، ويستحقها. لكن بلداناً أخرى، كثيرة، في العالم الثالث، لها أعلام وأناشيد، ودساتير، لكنها بدون جذور ضاربة في الأرض، وبدون حمولة تاريخية، ولامساهمة لها تذكر في بناء الحضارة، وفقيرة في امكانياتها الانسانية، وملجأ حصين  للنعرات الجهوية، والقبلية، ليس من السهل وضعها، وتصنيفها، حتى تجاوزاً، في خانة الأوطان.

وأن يكون لك وطن، فذلك شيء، مختلف في أبعاده التاريخية، والفلسفية، والحضارية، والنفسية، والاخلاقية، عن أن تكون منتمياً  لبلد، أي لرقعة جغرافية ترسّمها حدود، تتوزع داخلها، تجمعات بشرية، متشظية، في جزر صغيرة، معزولة، تعيش على هامش التاريخ، وعاجزة حتى على حل مشكلة التخلص من القمامة.

شاهد أيضاً

المنفي يبحث عودة السفارة الصينية واستئناف عملها بطرابلس

  ناقش رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، عودة السفارة الصينية واستئناف عملها بالعاصمة طرابلس. جاء …