محمد الهادي الجزيري
استمعت إليها مرّتين ..كان ذلك ” بالرجيش ” قرب ” المهدية ” حذو البحر والأصدقاء… ثمّ أنصتّ إليها في بيت الشعر في إحدى ليالي رمضان وكان ذلك كافيا لأقول أنّها تعد بالكثير للقصيدة ..، من يراها لا يصدّق أنّها أمّ لطفلين ..تبسم لمن حولها كأنّها مبعوثة السلام ..، وها قد فازت مجموعتها الشعرية ” أخطاء فادحة ” بجائزة الطاهر الحدّاد لأدب المرأة ولم أفاجأ بهذا التتويج فهي في هذه الساحة المتخمة بالرداءة ..تعبق بالإبداع والجمال والتواضع والطيبة …، إنّها فاطمة كرومة مبدعة تونسية ..
تفتتح المجموعة باسمها كتعويذة ضدّ الذوبان في بحر الأسماء الشعرية الكثيرة التّي يعجّ بها المشهد ..، ولا أدري القصد الذي أردته بتحديد مكان ميلادها فأيّ غرفة تبعث منها الشاعرات ..لكنّها صدقت في ” خرف مبكّر ” كونها اكتشفت منذ البداية التفاصيل المثيرة التي ستطلعنا عليها ونحن نقرأ المجموعة ونخوض في ثناياها :
” اسمي فاطمة
وُلدت في نفس الغرفة
التي تُبعث منها الشّاعرات
لم أولَد على ضفّة نهر
أو عبرَ نهر حياتي
لكنّني لامست كلّ التّفاصيل المثيرة ”
تمعن في الانتصار لجنسها ..وتتحدّث عنهنّ أكثر من مرّة ..، تقول أنّهن شاعرات يقطعن مسافات مرهقة وصعبة ليصلن إلى غرفتها، لكأنّها تنفي كلّ دور لها في الكتابة ..، وتقرأ أكفّهنّ على ضوء خافت..، ولنستمع إليها في قصيدة ” الشاعرات ” ونصغي كيف تدافع عن المرأة وتمجّدها وترفع عنها غبن دهور وأحقاب عانت فيها الويلات :
” يسِرن أثناء نومِهنّ
من الأراضي البعيدة حتّى غرفتي
يتمسَّكن بضفائري الوهْميّة
وأتمسّك بأكفّهن
أقرؤها على ضوْء خافت
الشَّاعرات تزوَّجْن وانْتحرْن باكرًا
بعد أن كتبن الحياة بصُدور مَكْشُوفة
وجراح غائرة
مَخْفيّة بعناية
كلّما اقْتحمن غُرفتي
أخفيْتُ وجهي، مثل حُفرة صغيرة في غابة مُخيفة
بأيديهنّ الرّقيقة والمتشابكة
ونظرتُ إلى العالم من شُقوق بين أصَابعهنّ ”
لقصيدة النثر فارساتها ومجنوناتها وفاطمة واحدة منهنّ، تكتب بخلاياها ..بجسدها كلّه من دون شرط ولا قيد..، لذلك يجئ النّص كاملا لا ينقصه أيّ شيء..، إنّها المرأة العربية بمشاكلها ومطالبها تجرد أحلامها وكوابيسها كأيّ طفلة نقيّة ..لا علاقة لها بالسياسة الصاخبة والظاهرة وما يجري في العالم من مظالم لا حدّ لها ..،تكتب نفسها بصدق شديد وهذا ما ينقصنا في كتابات المرأة التونسية..، نريدها كما هيَ..يكفينا من الدمى ممّن يقلن ما لا يفعلن ..، وإنّي أراهن أنّ فاطمة كرومة لو واصلت على هذا المنوال ..وظلّت بعيدة عن الغوغاء والنطيحة والعرجاء ..معتنية بقصيدتها ..ستكون لها الرتبة التي تستحقها تماما..
” صفيني أيّتها الكلمات النّورانية
لا أراني
لا أعرفني
كل ما كتبته وعشته كان صدفة
وبلغت قمّة الضّجر في وجودي الذي أكمل دوْرته
وأعجز عن ترويضي لأكرّره مثل تاريخ بلا حكْمة “