منصة الصباح

قصة: مأثرة القط ‪.. للقصاص البريطاني ساكي

ترجمة/ عمر أبوالقاسم الككلي

ليس من التجارب غير الشائعة في التاريخ السياسي للأمم أن تجد دولا وشعوبا كان بينها، منذ فترة وجيزة، صراع مرير وعداوة، تسوي الأمور بينها بيسر على أسس حسن النوايا المتبادلة وحتى يصبحون حلفاء.

والتاريخ الطبيعي للتطورات الاجتماعية للأنواع تنطبق عليها نفس حالة اتحاد عنصرين كانا متحاربين، مثال ذلك الآن الإنسان المتحضر والقط المستأنس.

فالكفاح الضاري الذي جرى بين البشر والسنوريات في تلك الأيام الغابرة حين كان النمر ذو الأسنان السيفية وأسد الكهوف يتصارعان مع الإنسان البدائي، حسم منذ أمد طويل لصالح المقاتل الأكثر امتلاكا للتجهيزات المناسبة (الكائن ذي الإبهام) أما ذرية العائلة المحرومة من الإبهام فقد اقتصر وجود معظمهم اليوم على دنيا الأدغال والبراري المعشبة حيث التواري البديل الوحيد عن الفناء.

ولكن فيلس كاتس، أو أيا كان سلف القط الحديث المنزلي (قضية محل نقاش حام الآن) تجنب بضربة تكيف بارعة خراب جنسه و»افتك» مكانة في العماد من تنظيم الغازي.

لأن هذا الحيوان، أشد اللبونات كبرياء، لم يدخل الأخوة البشرية كرقيق أو عالة، ليس كعبد مثل حيوانات الأحمال، طفيليي التجمعات الذليلين مثل الكلب.

القط منزلي فقط بقدر ما يوافق ذلك أهدافه، فهو لا يوضع في وجار أو يسرج أو يعاني من أية إملاءات فيما يتعلق بخروجه ودخوله.

ذلك أن اتصاله الطويل مع النوع الإنساني نمى فيه فن الدبلوماسية، وما من كاردينال روماني من العصور الوسطى يعرف أفضل منه كيف  يتوافق مع محيطه أكثر مما يفعل القط مع صحن قشدة في أفق خياله.

ولكن الدماثة الاجتماعية، براءة الهرير، نعومة المخلب الحريري، يمكن أن توضع جانبا في غضون لحظة والسنور الرشيق يختفي، بترفع متعمد، في عالم السطوح ومجموعات المداخن حيث يكون العنصر الإنساني بعيدا ومتجاهلا.

أو أن روح التوحش الداخلي الذي ساعده على البقاء زمن الأسنان والأنياب الغابر يمكن أن تستدعى من تحت الظاهر الأملس، وتجد غريزة التعذيب (الشائعة عند الإنسان والسنوريات) لعبها الحر في مكابدات احتضار طائر أو فأر ما سيء الحظ. ليس انتصارا صغيرا، في الواقع، أن تُدمِج حرية التوحش البدائي المنفلتة في الرفاه الذي من غير الممكن التحكم فيه إلا من قبل حضارة عالية التطور، وتكرع من أوان صقيلة جمعتها التجارة من أطراف العالم القصية، وتتنعم بالدفء الذي استخرجه العمل والصناعة من أحشاء الأرض، وتستمتع بالأطايب التي أوصت الثروة بإحضارها إلى مائدتها، وتظل مع ذلك ابنا حرا للطبيعة، صيادا كبيرا، سافكا دم الحياة.

هذا هو نصر القط. ولكن إلى جانب مصداقية النجاح يمتلك القط خصائص أخرى تفرض الاعتراف بها.

فالحيوان الذي عبده المصريون كإله، الذي وقره الرومان كرمز للحرية، الذي لعنه الأوربيون في حقبة الجهل، العصور الوسطى، باعتباره مطية الجن، أبان في كل العصور عن ميزتين مندغمتين إلى حد كبير: الشجاعة واحترام الذات.

مهما كانت الظروف غير مواتية، فإن الخاصتين معا دائما في المقدمة. ضع طفلا، جروا، وقطيطا أمام خطر مفاجيء، سيبحث الطفل غريزيا عن مساعدة، الجرو سينبطح في استسلام ذليل أمام العقاب الوشيك، القطيط سوف يوتر جسده الضئيل استعدادا لمقاومة حامية. وأبعد القط المحب للرفاه عن مناخ الراحة الاجتماعية التي عادة ما يشق طريقه خلالها، وراقبه بعناية تحت الظروف الحضارية المعاكسة (تلك الحضارة القادرة على إرغام رجل على الاتضاع وارتداء ملابس السفيه المبهرجة والرقص رقصات المشعوذ في الشوارع بغية الفوز ببضع قطع نقدية تبقيه على الجانب المحترم، أو غير الإجرامي، من المجتمع.

أما قط الأحياء والأزقة الفقيرة، الجائع، المنبوذ، المهدد، فمازال يحتفظ، وهو يجوس بحثا عن القوت في الظروف المعاكسة، بخطوات النمر الحر الشجاع، تلك الخطوات التي خطاها في الأيام الخوالي ببلاطات طيبة، ومازال يظهر اليقظة المعتمدة على النفس التي لم يعلمه الإنسان وضعها جانبا. وحينما لا تكفيه حيله وتدابيره لدفع مصير لايرد، حينما يثبت أعداؤه أنهم شديدو البأس أو كثيرو العدد قياسا إلى قواه الدفاعية، فإنه يموت وهو يقاتل إلى النهاية، مرتعشا بالثورة الخانقة الناتجة عن المقاومة البارعة، معبرا في صرخة الموت عن كرب الاحتجاج المر الذي رمت به الحيوانات البشرية أيضا بكل قوة على أمل أن يجعلهم هذا الاحتجاج الأخير في وجه القدر سعداء، لكنه لم يجعلهم.

(*) Saki الإسم الأدبي للقصاص البريطاني Hector Hugh Munro (1870-1916) الذي يعده الإنغليز في مصاف تشيخوف وأوهنري. ولد في أكياب ببورما( ميانمار الحالية) لأب اسكتلوندي كان جنرالا في الشرطة. نقل إلى بريطانيا وعمره سنتان على إثر موت أمه، ثم استعاده أبوه حين تقاعد. في الثالثة والعشرين من عمره تحصل على وظيفة شرطي في بورما، لكن المهنة لم تكن تتلاءم وحالته الصحية فلم يقض بها سوى سنة وعاد إلى بريطانيا. انخرط في العمل الصحفي واشتغل عدة سنوات مراسلا الـ Morning Post في روسيا والبلقان وباريس. جند في الجيش عند اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914 ومات في ميدان القتال. يثار غموض حول اختياره اسم ساكي، إلا أن أخته أكدت أنه مأخوذ من كلمة»الساقي» الواردة في رباعيات عمر الخيام.

شاهد أيضاً

موسى يؤكد ضرورة سرعة ودقة إدخال بيانات الحجاج للمنظومة الإلكترونية

أكد منسق المنطقة الوسطى أ (مصراتة – زليتن – الخمس – مسلاتة) علي محمد موسى …